اندست تحت الغطاء في غرفتها ، محاولة استجلاب بعض الدفء في تلك الليلة الباردة..
كانت قد تجاوزت الستين ، وغدت تشعر بالبرودة الشديدة كأنها سكين ينخر في عظامها ، ولاسيما أن الغطاء ليس غليظا فلم يفلح في تدفئتها..
تذكرت أيامها التي ولت ، وكيف كانت امرأة شابة جميلة شديدة النشاط ، و استطاعت أن ترعى أبناءها بعد وفاة زوجها في حادث مفاجيء..!
أبت الزواج خوفا من أن يتأذى أبناؤها من زوج الأم ، هكذا قررت أن تفني حياتها في خدمة أولادها..
ارتجف جسدها تحت وطأة البرودة الشديدة ، في غرفتها حالكة الظلام..وهي تستطرد في أفكارها..
دأبت على مواصلة الليل بالنهار ؛ لكي توفر لهم اقواتهم وتغطي مصاريف الدراسة ، ولاسيما لابنها الأكبر الذي كان في كلية الهندسة وأصرت أن يواصل دراسته..
مهما كانت التضحيات..!
ابنتها الكبرى بشيء من المعجزة ، وقبول المساعدات من أهل الخير ، تزوجت بجهاز لا يقل عن أقرانها ، ولها ولدان لطيفان لا تراهما إلا لماما..!
” ألن تتوقف العواصف..؟! ، إن البرد يكاد يقتلني” حدثت نفسها وهي لاتزال تسترجع شريط ذكرياتها على خلفية أصوات الريح..
ابنها الأصغر تخرج من معهد بسيط ، لكنه صار تاجرا كبيرا ، له متجران كبيران في قلب القاهرة الكبرى..
هنا ابتسمت في رضا ، وقد شعرت بأنها قد أدت رسالتها على أفضل نحو ، خصوصا أنها كثيرا ما كانت تكمل عشاءها نوما لأن الطعام كان يكفي أولادها بالكاد..
لذع الحنين قلبها شوقا إلى فلذات أكبادها ، الذين لم ترهم منذ ستة أشهر كاملة..
تمثلت ابتسامة حفيديها أمامها ، فلم تستطع مقاومة الدموع الصامتة التي انحدرت على وجنتيها في غزارة..كأنها تنافس الأمطار التي بدأت تهطل بشكل كثيف..!!
انكمشت في فراشها بفعل العواصف الشديدة والتي بدأت تسمع معها أصوات الرعد ، مما أثار الرعب في قلبها في غرفتها المظلمة..
الحق أن الرياح كانت عنيفة إلى درجة أنها أسقطت تلك اللوحة التي على السور القديم المحيط بذلك البناء حيث تقبع غرفتها في ذلك الحي الهادئ المظلم في أطراف القاهرة..
اللوحة المكتوب عليها بأحرف متهالكة..
“مرحبا بكم في دار المسنين”..!!
(تمت).
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا….