تامل رئيس تلك المحطة التلفزيونية الشهيرة ، بعض الأوراق على مكتبه ، قبل أن يرفع عينيه إلى الشاب الواقف أمامه في توتر ، وقال في لا مبالاة :
– لا بأس ، التقارير تقول إن صفحتك على (فيس بوك) ، تحوز إعجابات الآلاف من المتابعين ، ويتفاعلون معها بشكل جيد جدا.
تأمل الشاب الغرفة الفخمة التي يقف فيها ، قبل أن يجيب في توتر :
– هذا من ذوق حضرتك يا أفندم.
ابتسم الرئيس وقال في هدوء :
– أنت تعلم أننا على مشارف (رمضان) ، ونحن بصدد إنتاج برنامج ديني لأول مرة على قناتنا.
صمت لحظة قبل أن يردف :
– ووقع الاختيار عليك لتقديمه.
أطلت السعادة من عيني الشاب وهو يقول :
– سأكون عند حسن ظنكم إن شاء الله.
أشعل الرئيس سيجارا فخما ونفث دخانه في هدوء وقال:
– حسنا ، قل لي ما فكرة البرنامج الذي يمكن أن تقدمه في هذا الشهر..؟!
عقد الشاب حاجبيه مفكرا ، ثم لم يلبث أن انفرجت أساريره ، وقال في حماس :
– سأقدم برنامجا بعنوان أخطاء العقيدة ، لقد شرعت في إعداده بالفعل ، وأوشكت على انهائ…..
قاطعه الرئيس في غضب ، وهو يضرب سطح المكتب بقبضته في قوة ، قائلا في ثورة :
– هل أنت مخبول؟ هل تعلم عدد المشاهدين الذين سنفقدهم بهذا العنوان ؟ أخطاء..؟! وعقيدة ..؟!
ارتبك الشاب وهو يقول :
-لكن أساس الدين العقيدة ، ودور الداعية ألا يألو جهدا في إصلاحها عند الناس.
أطلق الرئيس ضحكة عصبية ، قبل أن يقوم من مكتبه وهو يقول:
– اسمع يافتى ، صحيح أنك لازلت صغيرا ، لكن يجب أن تعي هذا الكلام جيدا.
نفث دخان السيجار في قوة وهو يتابع في برود :
– نحن محطة درامية ، نتكسب أساسا من الأفلام والمسلسلات التي نشحن بها قناتنا دوما ، ولأن أغلب الناس يكونون في حالة نفسية مهيئة لاستماع المواعظ في (رمضان) ، قررنا تقديم برنامج ديني لكسب نوع آخر من الجمهور ، أكرر ، الجمهور هو غايتنا الوحيدة ، ليس النصح ولا الوعظ ، وإلا كنا أول من انتفعنا بها.
صمت لحظة يلتقط فيها نفسه ، وعاد إلى مقعده ، قبل أن يتابع:
– تأمل بعض زملائك في القنوات الأخرى ، وحتى على صفحات بعضهم على (فيس بوك) ، تجد أنهم قد استوعبوا الدرس جيدا ، لايتكلمون في العقيدة إطلاقا ، لأنهم حريصون ألا يفقدوا أي فصيل من الجماهير ، حتى ولو كانوا من أصحاب الفكر المنحرف ، أو من الفرق الضالة..!
ارتسمت الدهشة على وجه الشاب من التعبير الأخير للرئيس الذي وضح قائلا في أسف :
– لقد مكثت في (السعودية) عشرين عاما ، وحضرت دروسا للعلماء في الحرم المكي ، لكني لم أستطع مقاومة براثن الدنيا ، والتي أنا غارق فيها الآن حتى النخاع.
ران الصمت برهة قبل أن يتابع في صرامة :
– ثمة قواعد يلزم التقيد بها ، لا حديث عن العقيدة ، لا كلام عن البدع ، غير مسموح أن تأتي بكلمة (حرام) في برنامجك ، لا مجال لذكر النار ، ليكن خطابك (كلكم ستدخلون الجنة ، لكن أحسنوا الظن في ربكم – الغفور الرحيم -ولا حاجة لأن تغيروا من حالكم ؛ لأن قلوبكم طيبة ونفوسكم طاهرة).
تردد الشاب قبل أن يقول :
– وما فائدة البرنامج الديني إذن ، إن مقتضى الدعوة الإسلامية أن…
قاطعه الرئيس بضحكة ساخرة قبل أن يقول :
– هل صدقتم أنفسكم ، أنت وبعض زملائك الذي أشرت إليهم آنفا..؟! أنت نفسك لم تحصل على الإعجابات الضخمة إلا بسلوكك هذه الطريقة ، هل تظنون أن ماتقدمونه يعد من الدعوة الصحيحة أو الأمر بالمعروف..؟! أنتم تدغدغون ضمائر الناس ، تقولون لهم: ” مادمتم تتابعون برنامجا دينيا ، فأنتم على خير” ، لكن الحقيقة أن برامجكم تذكر كلاما إجماليا لا يختلف عليه أحد ، لذلك نجد الناس يسمعون ولا يتغيرون..!
اطفأ سيجاره ، وزفر في قوة ، قبل أن يتابع :
– دور الداعية أن خطابه يحدث ثورة على الباطل داخل الناس ، ويضيء الإيمان في قلوبهم ، لابد أن يتطرق الداعية إلى التفصيلات في حياتهم ، ويبين ما فيها من حق وباطل ، ويسلط الضوء على أخطائهم ، عقائدية كانت -وهي الأهم- أو تعبدية ، أو سلوكية ، تمهيدا لإصلاحها.
ساد الصمت مرة أخرى لحظات ، قبل أن يقول الرئيس في حزم:
– الخلاصة ، إذا أردت برنامجا دعويا يحصل على نسبة مشاهدة غير مسبوقة ، فلا تغضب أحدا ، لا تضيق على مبتدع ، ولاتخطيء عاصيا ، ولاتكفر مشركا ، حتى غير المسلمين ، هم من جمهورك الذي يجب ألا تفقدهم..!
صمت هنيهة قبل أن يردف :
– ادع الناس بالكلام الذي لا ينكره أحد ، “الناس يجب أن يحبوا بعضهم بعضا” ، “الرسول نبي مكارم الأخلاق” ، “القرآن عظيم وبليغ” ، “الله كريم ويحب عباده”.
وفي الوقت نفسه ، حذار من ذكر أحكام الحلال والحرام ، أو التعليق على ممارسات بعض الناس عند المقابر ، أو اختراعهم لأعياد مبتدعة ، أو مشاركتهم لغير المسلمين في احتفالاتهم ، أو بعض المعاملات البنكية والمالية عموما.
شرد الشاب في كلام رئيس المحطة ، الذي تابع :
– أما الدعوة الحقيقية إذا أردتها ، فهي يجب أن تكون على النمط الذي سار فيه العلماء ، يبينون أحكام الحلال والحرام ، يعلمون تفسير آيات القرآن ، يوضحون الأحاديث النبوية ، يخرج الناس بأحكام تظل ترافقهم ، وليس بمواعظ مؤقتة سرعان مايزول أثرها في القلب.
لم يلبث أن نظر الرئيس إلى ساعته وقال في برود :
– لقد اضعت معك وقتا ثمينا ، هذه شروط العمل معنا ، بالمناسبة ، أرجو منك بعد فترة أن يركز البرنامج شيئا فشيئا على التنمية البشرية ، ليس أجمل من الكلام عن النجاح الدنيوي والتفوق والذات ، مع تغليف هذه الأشياء بثوب ديني أنيق..ما رأيك..؟!
هل ستقبل العمل معنا بهذا الشروط..؟!
بدت الحيرة وعلامات التفكير على وجه الشاب ، قبل أن يطرق برأسه قليلا ، ثم يرفع رأسه إلى الرئيس ويقول في خفوت :
– أوافق.
أخذ الرئيس نفسا عميقا في ارتياح ، قبل أن يقدم للشاب بعض الأوراق ويقول في حزم :
– إذن وقع هنا.
انحنى الشاب ليوقع على الأوراق ، في حين تراجع الرئيس بمقعده إلى الخلف في زهو ، وقد شعر بأنه كسب صفقة جديدة..
صفقة من صفقات هذه الحياة..
الحياة الدنيا..!
(تمت)
(تنويه : ليس القصد من القصة الإشارة إلى برنامج معين ولا قناة معينة ، ولا ندخل في نية أحد من الناس ، وقد يكون من يظن أننا نشير إليه ، أحسن حالا عند الله ، وأكثر تقوى وخشية لله ، إنما القصة خيالية تعطي للقاريء منهجا في اختيار ما يتابعه من برامج دينية ، فلايظن أن الاستمتاع بالبرنامج دليل على أنه برنامج مفيد ، فأرجو ألا يحدث إسقاط على برنامج معين ، لأن الهدف توصيل الفكرة وليس ذما لأحد ، والله أعلم بالنوايا).