صافحه بحرارة شديدة ، أمام قسم الهرم ، وهو يقول بامتنان شديد:

صافحه بحرارة شديدة ، أمام قسم الهرم ، وهو يقول بامتنان شديد:
– لا أدري كيف أشكرك ، لقد أسديت لي خدمة جليلة..!
ابتسم الرجل ابتسامة باهتة وقال :
– لا شكر على واجب ، أنا لم أفعل سوى واجبي.
نظر الأول ، والذي يبدو عليه أمارات الثراء ، إليه في استنكار ، قبل أن يقول في انفعال:
– كيف ذلك..؟! لقد عطلت نفسك ، وأصررت أن تأتي معي لتشهد على خطأ السائق الذي صدمني ، ولولا شهادتك لما استطعت أن أتحصل على التعويض المناسب.
حافظ على ابتسامته الباهتة وقال :
– ربنا سبحانه وتعالى يقول : (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ).
هز رأسه في قوة ، وقال :
– نعم ، لكن كثيرون شاهدوا الحادثة وفضلوا أن يمضوا لأعمالهم ، هل تعلم أنك أنقذت لي عشرين ألفا من الجنيهات..؟!
رفع حاجبيه في دهشة وقال :
– وهل رضي خصمك أن يدفع هذا المبلغ..؟!
أجابه في حماس :
– لم يكن لديه اختيار ، خصوصا بعد شهادتك الغالية ، لقد تم تحرير محضر ، ونصحوه بالاصطلاح معي ، وإلا سيتعرض للحبس
قال في هدوء :
– الحمد لله.
أخرج الثري رزمة من النقود وقال له :
– أرجو أن تقبل مني تلك الهدية المتواضعة.
انتفض جسمه كأنما لدغه عقرب ، وقال :
– هل تريد أن أتحصل على مقابل لخدمتي لك ، هذا مستحيل ، أنا ما تحركت إلا لأنه من كان في عون أخيه كان الله في عونه ، ومن فك كربة عن أخيه ، فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة.
أعاد الرجل الثري النقود إلى جيبه ، إزاء إصرار متحدثه وقال :
– عموما ، جزاك الله خيرا يا أستاذ…..؟!
ابتسم الرجل نفس ابتسامته الباهتة وقال :
– صلاح …صلاح محمد البدوهي..!!
* * *
توقفت السيارة الفارهة للرجل الثري أمام شركة الكهرباء بحي غرب القاهرة ، حيث يعمل هناك كمدير عام للإدارة..
اتخذ المصعد المخصص له ، ثم لم يلبث أن جلس خلف مكتبه الفخم ، وأخذ يوقع في آلية بعض الأوراق التي قدمها له سكرتيره الخاص..
سمع جلبة خارج مكتبه ، فعقد حاجبيه وهو يسأل السكرتير :
– ما هذه الأصوات..؟!
تنهد السكرتير في ملل وقال :
– إنها امرأة جاءت تطلب عدم قطع التيار الكهربائي ، بسبب تأخرها في دفع المستحقات.
تحركت لأول مرة الشفقة في قلبه ، وقد أحس بشعور المسؤولية تجاهها ، بعد هذا الموقف الذي تعرض له ، ووقوف الرجل الشهم بجواره..
” اجعلها تدخل “
دخلت الشابة المسكينة ، وجلست أمام المدير وقالت له في استعطاف :
– نحن لم نتاخر سوى أربعة أشهر ، بسبب فصل زوجي وكل العاملين من عملهم بالشركة التي قامت بتصفية حساباتها في مصر.
قال لها في هدوء :
– ولماذا لم يبحث عن عمل..؟!
قالت :
– زوجي مكث سنوات في هذه الشركة ، ومنعته من كل حقوقه التأمينية ، ومكافأة نهاية الخدمة ، والقضايا لا تحسم في مصر بشكل سريع كما تعلم. لقد تجاوز الخامسة والثلاثين ، والمطلوب في كل الشركات ألا يتجاوز الثلاثين.
ساد الصمت لحظات ، قبل أن تتابع :
– لكنه وجد عملا اليوم ، وستتيسر الأمور بإذن الله.
قال لها في تعاطف:
– كم المبلغ المتأخر عليكما..؟!
قالت في سرعة :
– أربعة آلاف جنيه.
قال في بساطة :
– هات الفواتير وسأقوم بتسديدها..!
أطلت السعادة الغامرة من وجهها ، قبل ان تقفز من مقعدها ، وتقول في سعادة :
– ربنا يكرمك ، ربنا يعزك ، الحمد لله أن في المجتمع من يملك قلبا رحيما كسيادتكم.
تأمل الفواتير التي أعطتها له ، قبل ان ينتفض جسده في عنف ، فقد كان الاسم الذي على الفواتير مألوفا…
مألوفا جدا..
* * *
قال لها في انفعال :
– اسم زوجك صلاح محمد البدوهي..؟!
عاودت المراة الجلوس على مقعدها ، قبل أن تقول في قلق :
– نعم ، هل هناك شيء بصدده..؟!
هتف الرجل في انفعال :
– لا ياسيدتي ، لكن زوجك رجل نبيل ، الآن فهمت سر ابتسامته الباهتة ونظرته الحزينة ، لقد كان في حاجة إلى عمله الجديد ، وخاطر بفقده من أجل أن يقف بجواري..!
لم تنبس ببنت شفة ، وهي تحاول أن تستوعب كلامه ، وظلت تتابعه وهو يواصل :
– قام بالوقوف معي ، ورغم ضائقته المالية ، إلا أنه لم يقبل أي مكافأة مالية ، لقد أنتظر المكافأة من الله…
صمت لحظات يستجمع فيها أنفاسه ، قبل ان يتابع بنفس الانفعال :
– أخبريه يا سيدتي أنه كوفيء على عمله في الدنيا قبل الآخرة.
قالت المرأة وقد بدأت تستوعب الأحداث :
-نعم ، لقد ساعدتنا فعلا مساعدة جليلة.
هنا وقف المدير ، وابتسم قائلا:
– لم أكن أعني هذا فحسب ، إنما أردت أن تبلغي زوجك أن يقدم مسوغات التعيين في شركة الكهرباء ، ويستلم العمل فورا.
حبست المرأة صيحة كادت أن تخرج من فرط المفاجأة ، ووضعت يديها على فمها ، وهي تتابع المدير الذي قال في شرود :
– لقد علمني درسا لن أنساه ما حييت ، علمني أن الوقوف مع الناس في محنتهم هي التجارة الحقيقية ، التجارة الرابحة.
(تمت)