أشعل سيجارا ونفث دخانه في ضيق ، وهو ينتظر سيارة (الميكروباص) التي ستنقله إلى (أول فيصل)

أشعل سيجارا ونفث دخانه في ضيق ، وهو ينتظر سيارة (الميكروباص) التي ستنقله إلى (أول فيصل) ، حيث يقطن هناك بعد أن تزوج..
تشير عقارب الساعة إلى الحادية عشرة ، وقد غادر عمله قبل المواعيد الرسمية ، ليستغل الوقت في الانتهاء من رسالة (الدكتوراه) التي تأخرت كثيرا..
لم يكن لديه بديل ، خاصة وقد انتهت إجازة التفرغ ، كما أنه يحتاج إلى المرتب بشدة خاصة بعد إنجابه لطفلين جميلين..
هكذا نفعه علاقته الجيدة بمدير المستشفى ، لاسيما أنهما كانا زميلين قديمين ، وهو نفسه قد أخذ رسالة (الدكتوراه) بنفس المنطق ، (بالتزويغ) من العمل اعتمادا على علاقاته الجيدة بالمديرين..!
صحيح أن ضميره كان يؤنبه لاختلاط بعض ماله بالحرام ، وهو مقدار الساعات التي لم يعمل فيها وحصل على راتب إزائها ، لكنه سرعان ما يتخلص من هذا الشعور ، بتعليله أن راتب الحكومة هزيل للغاية ، ومن حقه أن يتحايل للحصول على مستحقاته من الدولة..!
يعلم أنه قد اتفق على الراتب ووافق عليه ، ومن ثم ينبغي أن يعمل بمقتضى هذا العقد ، لكن من قال أنه يطيل النقاش مع ضميره إلى هذه الدرجة..؟!
حشر نفسه وسط الزحام ، بعد مقدم السيارة بشكل سريع ، بدنه الضخم لم يساعده إلا أن يدرك المقعد الأخير في السيارة ” الكرسي القلاب” ، والذي يضيق به كثيرا لاضطراره النزول كلما نزل راكب من السيارة..
ألقى السيجارة غير المكتملة ، وهو يمط شفتيه في قرف ، من اجتماع روائح الناس وعرقهم ، كان يرى إهانة بالغة في ركوبه مع الناس ، هو بطبعه عصبي نافد الصبر ، يراهم دوما أكثر غباء ، وأثقل ظلا..
صحيح أنه يدرك أن الكبر هو بطر الحق وغمط (احتقار) الناس ، إلا أنه لم يفلح فيى التخلص من هذا الشعور قط ، وتمنى أن يمتلك سيارة بأي ثمن..
وبأي طريقة..!
لهذا -بعد تردد بسيط- قدم في أحد البنوك لينال قرض السيارة ، تردده كان نابعا من خوفه الملازم له من صغره من التعامل مع البنوك ، لأنهم يقرضون ويأخذون الفوائد المركبة ، التي أثقلت كواهل الكثرة الكاثرة ممن يعرفهم ، من زملائه وأقاربه ، الذين اقترضوا من هذه المؤسسات..
لم يقتنع قط بأن ثمة فرق في أن يفترض من البنك مباشرة ، أو يشتري له البنك السيارة المنشودة ثم يقسط هو الاقساط الشهرية للبنك بعد أن سدد قيمتها كاملة للمعرض..
طبيعته العلمية كطبيب ، تأبى أن ترى فرقا في الحالتين ، البنك كأنما أقرض له مالا فاشترى سيارة ، ثم رد المال للبنك بالفائدة المستحقة..!
نفس المعاملة بالضبط ، إلا أن معاناته اليومية في المواصلات ، أفقدت إرادته على الصمود أمام هذه العروض المغرية..
الآن سيقدر على التباهي بسيارة حديثة ، أسوة بباقي زملائه ولاسيما أنه على مشارف (الدكتوراه)..
أفاق من أفكاره بعد أن وصل إلى محطته ، قبل أن يوقف التوكتوك الذي وجده أمامه ، فألقى جسده فيه ، بعدها وصل إلى بيته ، وأولج المفتاح داخل الباب قبل أن يدخل أخيرا إلى البيت..
الساعة تجاوزت الثانية عشرة والنصف ، إلا أنه لن يستطيع أن يصلي الآن ، سينام يستيقظ بعد العصر ويصلي الفرضين معا..
يدرك خطورة جمع صلاتين بدون عذر ، لكن ليس إلى حد مقاومة كل هذا الإرهاق الذي يعتريه..!
زوجته تعد الغذاء بالمطبخ ، سلم عليها في فتور ، منذ فترة لم يعد يشعر برغبة في تبادل الحديث معها ، لقد أصابه داء (الخرس الزوجي) فجأة..!
وبلا مقدمات..!
صار لا يشعر بأي غيرة تجاهها ، تضع صورها على الفيس بوك ، وتخرج متزينة رغم حجابها ، لكنه صار لا يلتفت إلى هذا كله..
يذكر مرة أنه اعترض على بعض ملابسها الضيقة ، فانتهى اليوم بشجار عنيف ، بحجة أنه بذلك لايثق فيها ويشك في تصرفاتها..!
هكذا عود نفسه ألا يفتح هذه المواضيع كثيرا ، لاسيما أنها لم تشذ عن واقع أغلب مجتمعها..
استيقظ قبل المغرب ، وقام بتشغيل (الكمبيوتر) بعد أداء الصلاة ، دخل على الانترنت ، وفرح جدا بنزول النسخة H.D من أحد الأفلام الأجنبية التي انتظرها كثيرا ، ورفض حرق الاحداث من خلال متابعة النسخة غير الجيدة..
شاهد الفيلم ، ورغم انقضاء ساعتين إلا أنه لم يملك نفسه من معرفة موعد الإصدار الجديد للمسلسل الأجنبي الذي يتابعه منذ ثلاثة مواسم..!
طبعا لم ينس أن يتابع صفحته على (الفيس بوك) ، عدد المعجبين بمنشوره الأخير لم يزد عن العشرة ، كعادة أغلب منشوراته ، إلا لو أنزل صورة شخصية ، حينئذ تصل اللايكات إلى مائة وتزيد.
هكذا انقضى الوقت ، رغم أنه كان عازما على إكمال بعض رسالة (الدكتوراه) ، على الأقل كان يتمنى أن يجلس مع طفليه ، لكن زوجته تعلم التعليمات جيدا :
ممنوع دخول أي أحد إذا أغلق على نفسه باب غرفته..
أغلق الحاسب ، بعد أن شاهد آخر أهداف الدوري الأوروبي ، يرى أن (كرستيانو) لاعب عادي جدا إلى حد الرثاء ، في حين أن (ميسي) أسطورة تمشي على قدمين..
بعد ذلك ، توضأ وصلى المغرب مع العشاء..كعادته في معظم الليالي..
كانت زوجته أعدت له العشاء قبل أن تدخل إلى فراشها ، تناول العشاء قبل أن يدخل إلى فراشه بدوره ، ثم لم يلبث أن ضبط منبه هاتفه المحمول على موعد العمل في الساعة الثمانية..منذ شهور طويلة لا يصلي الفجر إلا بعد شروق الشمس.
اندس في الفراش مفكرا في بعض أحداث اليوم ، قبل أن يغط في نوم عميق..
لكنه كان نوما عميقا جدا..
إلى حد أنه لم يستيقظ منه أبدا..!!
* * *
هل كان يعلم أنها ستكون النومة الأخيرة بالنسبة له..؟!
هل سيسمع صرخات زوجته الملتاعة عندما توقظه وتهزه عدة مرات فلا بجيب..؟!
لم يكن مصابا بأمراض خطيرة ، لكن من قال أن الموت يعترف بهذا كله..؟!
هل فطن إلى أن الحياة أقصر مما يؤمل..؟!
هل تسنى له أن يدرك كم كانت حياته عادية ، بعيدة عن الغاية التي وجد من أجلها..؟!
والأهم..
هل كان مستعدا لتلك اللحظة..؟!
هل..؟!
(تمت).